[تنشر جدلية بالاشتراك مع مجموعة الـدكتافون ومؤسسة "آرت-ايست" نصوصاً تتناول الحق في الوصول إلى الشاطىء في العالم العربي تحت عنوان "من هنا البحر". نشرت هذه النصوص باللغة الانكليزية على موقع آرت-ايست. تنشر سلسلة "من هنا البحر" تباعاً على موقع جدلية خلال الأسبوع القادم. ]
حيفا
-I-
استعمار يمهد لاستعمار
باشرت حكومة "الانتداب" البريطاني في فلسطين العام 1929 بتوسيع ميناء حيفا الصغير الذي أقامه العثمانيون عام 1908، عبر إقامة المنشآت الضخمة وتجهيزه بكافة الوسائل الحديثة المطلوبة لتشغيله(1). أدى ذلك إلى تغييرات جذرية في بنية المدينة الاجتماعية والسياسية، إذ ما فتئ الكثير من الفلسطينيين عائلات وفرادا الانتقال من قراهم المجاورة للسكن والعمل في حيفا التي كانت تشهد ازدهاراً اقتصادياً، سواء في الميناء نفسه أو في الأحياء التي طفقت تنبثق وتتطور بمحيطه(2).
على الرغم من الازدهار الذي جلبه الميناء إلى حيفا وأهلها، فقد خدم الميناء الجديد مصالح الاستعمار البريطاني ولاحقاً الاستعمار الصهيوني. من هنا فقد صبّ الاستعمار جلّ استثماراته في هذا الميناء تحديداً، مقابل تهميش مدن الموانئ الفلسطينية القديمة والحيوية الأخرى وتحديداً موانئ عكا ويافا، وذلك تمهيداً لتحويل حيفا إلى المدينة اليهودية المركزية حينئذ. وفي غضون عدة سنوات أضحى ميناء حيفا، الميناء التجاري الأكبر في فلسطين والثاني بعد ميناء مرسيليا على مستوى البحر الأبيض المتوسط(3).
[حيفا: منظر عام من جبل الكرمل، في فترة الحكم العثماني [المصدر موقع كتاب "قبل الشتات"]
-II-
"داره على شط البحر"(4)
أدركت نجاح حينما لامست كفتا رجليها العاريتان الرمل لأول مرة، أنها قد خسرت الكفرين إلى الأبد.. هناك بمحاذاة البحر الشاسع المنسكب أمامها للمرة الأولى، لاطمت أمواج من الكرب والانقباض قلبها الوَجِل. كان قاتماً وبعيداً ولا يشبه البحر الذي أسهب زوجها ناجي في وصفه لأشهر قد طالت، قبل اقتناعها بانتقالهما إلى حيفا للعمل و"شوفة وجه ربنا شوي". "كل الناس بروحوا على حيفا اسا.. كل اشي فيها: قطار ومسارح وكاركوز وحكواتي وصندوق الدنيا(5)، هدول كلهم حيفا وأكثر.. بكفيكي البحر!". كانت المرأة تنظر إلى زوجها بعين الشك والحزن كأنه يتحدث عن شيء غير موجود، فيردف "بشتغل بالمينا سنة سنتين منجمع قرشين وبعدين منرجع على الكفرين". تمتمت وعيونها تغرورق بالدموع "أهل الساحل شروشهم رمل(6)، قلبي حاسسني إنه هالقصة مش راح تنتهي على خير...".
تستذكر نجاح كل هذا فيما كانت تقف على الشاطئ ذلك اليوم من تشرين الأول العام 1947. كانت الجمعة الأولى من الشهر، السوق مهجورة وناجي همّ منذ الصباح إلى جامع الاستقلال المحاذي للميناء، وسيبقى هناك حتى ساعة متأخرة من اليوم، فالقصص عن تقسيم فلسطين وانسحاب الإنجليز من البلد كانت تنتشر كالنار في الهشيم، وغالباً سيتداول الرجال في "الاستقلال" آخر المستجدات ونوايا الدول العربية بالرد على تقسيم فلسطين. انهلّت الأفكار على نجاح وهي تواجه البحر الذي لم يتوقف طيلة الأشهر الماضية بالقدوم بسفن تحمل اليهود الأوروبيين، والتي ازدادت بكثرة في الأسبوعين الأخيرين من ذلك الشهر العويص.
ولم يمض وقت طويل بعد كل هذا ليخرب العالم. في التاسع والعشرين من ذلك العام صوتت الأمم المتحدة على تقسم فلسطين، وباتت حيفا كسائر نواحي فلسطين غير آمنة ومهزوزة في وقت توالت فيه الأخبار عن المجازر التي تملأ البلاد. "من شان الله.. خلينا نرجع على الكفرين.. بدي أشوف أهلي.. هناك أأمن إلنا"، إلا أن ناجي كان يرفض؛ إذ لم يكن ليخبرها أن الكفرين قد سقطت قبل أيام قليلة.. دُمرت وهُجر أهلها وفيهم عائلته وعائلتها دون أن يعرف مصير أو وجهة أحد منهم.
حسمت الأشهر القادمة مصير حيفا المحاصرة بين بحر وجبل استحلهما الأعداء، إذ قصف الصهاينة المناطق المأهولة بالفلسطينيين الواقعة أسفل جبل الكرمل وعلى سفحه، وسيّلوا باتجاهها أنهاراً من النفط والوقود المشتعل وبراميل مملوءة بالمتفجرات من أعالي الجبل. يوم 21 نيسان 1948 كانت نجاح في شقتهم الصغيرة التي استأجروها في حي "وادي النسناس"، تسمع بمكبرات الصوت دعوات اليهود لهم بالفرار قبل فوات الأوان(7)، عندما جاءها ناجي فزعاً وسحبها من يدها هارباً بهما.
[لاجئون فلسطينيون يصعدون إلى قوارب صيد للهروب إلى غزة ومصر في الجنوب، وإلى لبنان في الشمال ]
[المصدر من الانترنيت، ظهرت الصورة والوصف في كتاب بابيه "التطهير العرقي في فلسطين"]
ما أن تخطيا عتبة البيت حتى سحبتهم الجموع الفارّة صوب البحر، حيث تجمعت في السوق القديمة التي تبعد أقل من مئة متر عن بوابة الميناء المغلقة يحرسها عدد من رجال الشرطة. خروج الفلسطينيين بحراً، كان كل ما بغاه الصهاينة وهم يقذفون الآن بمدفع الهاون الذي نصبوه على منحدرات الجبل المطلة على السوق والميناء حشود المجتمعين في السوق، فما كان من هؤلاء إلا أن أقتحموا بوابة الميناء يفرون دون هدى باتجاه البحر، وتكدسوا في قوارب حملت بعضهم إلى عكا المجاورة، وبعضهم ابتلعه البحر لفرط طمع بقارب طفحت حمولته وفاضت بآلامها(8). بعضهم كانت وجوههم مألوفة وأخر غرباء.. بيد أن جميعهم تقاسموا ملامح القلق والذعر ذاتها. بكت نجاح وانتحب ناجي وهو يسمع زوجته تردد "البحر ما يقذف إلا الميت(9)".
-III-
البحر أعطى والبحر أخذ
حمل البحر معه البضائع والماشية إلى حيفا وجلب الحداثة والتطور، إلا أنه حمل الأعداء أيضاً. عبر ميناء حيفا دخل المهاجرون اليهود من أوروبا إلى فلسطين واستوطنوها. وحسبت مصادر صهيونية رسمية أن زيادة السكان اليهود في المدينة في الفترة ما بين سنة 1931 وسنة 1938، بـ239%، الأمر الذ ضخّم عدد سكان المدينة اليهود من 15،923 شخصاً إلى 54،118 (10).
[صورة لاحدى البواخر المحملة باليهود القادمين من أوروبا ترسو في ميناء حيفا في تاريخ 18 تموز 1949]
[المصدر: صحيفة The Daily Mail]
كانت حيفا "المعقل" الأخير في فلسطين الذي تركه الانجليز، تحديداً لكونها الميناء الأساسي في فلسطين، بيد أن بقاءهم تمثّل بحماية الميناء دون أي شيء آخر؛ دون قرابة الـ50 ألف فلسطيني الذين طُردوا من حيفا عبر بوابة الميناء إياه، بعد يومين من ترك الانجليز للمدينة، لتسقط حيفا عشية يوم 21 نيسان 1948.(11)
يافا
-I-
إسكلة، تعني بالتركية رصيف عليه منارة.
أشار العثمانيون إلى يافا في سجلاتهم بالـ"إسكلة" للتدليل على الأهمية التي كانوا يعيرونها للمدينة، بوابة أوروبا للديار المقدسة(12)
[يافا من البحر. المصدر: Before the Diaspora]
بعد النكبة هُمش تماماً ميناء يافا، وأغلق في شهر تشرين الثاني 1965، وبوشر ببناء ميناء أشدود عام 1961 وانتهى عام 1965، لتصير موانئ الملاحة في فلسطين المحتلة ثلاثة هي: حيفا وأشدود وايلات(13)
-II-
كـ"الذهاب إلى ميناء يافا"
كان ميناء يافا مشاكساً صخرياً ضحل المياه لا يتعدّ عمقها المترين، ما عوّق رسوّ السفن الكبيرة فيه فكانت ترسو على مسافة بعيدة في عمق البحر. الحجيج القادم إلى أرض المقدس من أوروبا والعالم ولغاية مطلع القرن التاسع عشر، والذي كانت يافا عتبته الوحيدة لبيت المقدس، قد عانى من خطورة المرور بين الصخور عند دخول الميناء، فشاعت بين البحارة من هولندا وألمانيا في القرون الوسطى مقولة كـ"الذهاب إلى ميناء يافا" للتدليل على "الذهاب إلى الهلاك، كما لو كان مكاناً خطراً لا مثيله له، إلى درجة يضعف أمل العودة منه بسلام".(14) حتى أن بعض تجار أوروبا كانوا يراهنون الراحلين إلى الأراضي المقدسة على ثرواتهم، أي أن المسافر يقبض ما يعادل ثروته من التاجر الذي راهنه إذا عاد إلى بلاده سالماً، كما أن المسافر يترك كل ثروته لهذا التاجر إذا لم يعد إليها.(15)
وكانت امرأة اسمها فرنسيس املي نيوتن قد قصّت عن أختها التي سكنت يافا، وكانت قد نزلت في ضيافتها ذات يوم خطيبة طبيب المستشفى الاسكتلندي بيافا. فاعتزمت أختها الذهاب إلى القاهرة لتجلب كعكة عرس صالحة احتفاء بضيفتها. فشاكسها بحر يافا أيّما مشاكسة. فكانت أن سافرت إلى بور سعيد ومنها إلى القاهرة واشترت منها كعكة العرس، وقامت الباخرة من بور سعيد حتى إذا واجهت يافا وقد هاج بحرها مخرت إلى بيروت وثانية واجهت يافا وارتدت تواً إلى بور سعيد. وفي الثالثة استسلمت الأخت فنزلت في حيفا وعادت إلى يافا براً بمركبة مسيرة يومين ... وهاذا أمر كعكة عرس مع بحر يافا.(16)
-III-
أيوب والبحر
لا تملّ أمي أبداً من سرد قصة لقائها بوالدي على كل جليس، وخصوصاً على مسامعي، أنا ابنتها الوحيدة التي لم تتزوج. وقعت أمي بالحب بُعيد طقس أربعاء أيوب(17) بثلاثة أيام.. كانت قد أتمت عشرينها في الأسبوع ذاته. "وكنت حاطة الحزن بالجرن وقاعدة أتحسر على حظي.. واللهي خفت لأعنس وأقعد بوجه أبوي وامي بلا جوز" تقول أمي. أغلب الظن أن أفكار شبيهة كانت تجول في رأس أمها –جدتي- أيضاً، وهي تدفعها للتسبح في بحر يافا لتغني مع باقي الفتيات العزباوات في أربعاء أيوب "يا بحر جيتك زايرة من كثر ما أنا بايرة... كل البنات اتجوزت وأنا على شطك دايرة"(18).
"كل الناس مسيحية وإسلام كانوا يغنوا مع العزابيات.."، كانت عينا أمي تتسعان وتبرقان كما لو أن الحب أوقعها بأحابيله للتو. "المهم، كنت رايحه عبيت عمتي مريم. كانت بنتها بدها تتجوز وكنا نساعد في التحضيرات. كانت أصغر مني بأربع أشهر. بالطريق لما كنت مارقة جنب المينا اجا شاب تلاي وقال لي إنو شافني بأربعا أيوب قبل كم يوم وإنو حابب يخطبني". وتقسم أمي ألف قسم أنها شعرت بأيوب يغدق بنعمه عليها في تلك اللحظة، لكن سرعان ما كانت تمتمم مردفة بحسرة وهي تنظر إليّ "لكن أيوب مثل يافا مش راح يرجع".
["نظراً إلى غياب التنظيم العسكري السليم والدفاع المدني المنظم، فقد انهارت معنويات المدنيين الفلسطينيين في إثر الهجمات المشتركة التي شنتها قوات الهاغاناه والإرغون. هنا نرى النساء والأولاد يحاولون إنقاذ بعض ممتلكاتهم وهم يفرون من المدينة." [المصدر: Before the Diaspora]]
"المدنيون الفلسطينيون بعد إلقائهم في البحر: ميناء يافا، أواخر نيسان/ أبريل 1948. هاجر عشرات الآلاف من سكان يافا والقرى المجاورة ـ عن طريق القوارب ـ إلى غزة ومصر، ومات عدد كبير منهم غرقاً" [المصدر: Before the Diaspora]
كان صيف العام 1946 آخر مرة تشهد فيها يافا طقس أربعاء أيوب، بيْد أن اليافيين حملوا معهم الطقس إلى غزّة التي نزح عدد كبير منهم إليها بعد سقوط يافا يوم 13 أيار العام 1948. لكن سرعان ما أخذت تبدلات الحياة وطائلها على اللاجئين بنثر غبارها على أيوب وأربعائه، وبدأت الناس تتخلف عنه مع اعتلاء جمال عبد الناصر سدّة حكم مصر في الستينيات، ونشره للفكر التقدمي الماركسي الذي صوّر طقس أربعاء أيوب والشعائر الأخرى على كونها بدائية متخلفة ونعتها بكونها "ممارسة عجائز الفلاحين". كما اعتبر الاخوان المسلمون وتلتهم حركة حماس، أربعاء أيوب طقساً وثنياً ومنتهكاً لحرمة الجسد الأنثوي، وتحديداً عندما كانت ترتمي النساء العاقرات على أمواج البحر وهن يرددن استغاثة بالنبي "لقّح لقّح يا أيوب". وفي العام 1982 مع الاجتياح الإسرائيلي للبنان، نجحت حماس والتيار الاسلامي من الاستفادة من الجو النفسي العام لتحريم الطقس نهائياً(19)
غزّة
-I-
غزاة غزّة
"قطعنا 170 ميلاً في الصحراء. أكلنا في أثناء سيرنا لحوم الكلاب والحمير والجمال وشربنا المياه التي كنا لا نعثر على غيرها في طريقنا. وكثيراً ما كانت تمر علينا أوقات لم يكن لدينا فيها قطرة ماء. ولكن في غزّة اختلف الطقس وتغير كل شيء، وفي الأيام الثلاثة التي قضيناها فيها كانت الرياح عاصفة والأمطار منهمرة والسماء مكفهرة مما ذكرني في طقس باريز". نابوليون بونابرت، Bonaparte’s Adventure in Egypt by P. G. Elgood[20]
"أُف أيها الصديق الذي أعرفه في غزة. لقد كان من سوء حظ مواطنيك أنهم اختاروا فلسطين محلاً لإقامتهم دون أن يتبرع أحدهم بأن يقرأ الفنجان ويعرف مقدماً أن سيدنا موسى عليه السلام يزمع أن يحرر أبناء الرب من قبضة فرعون ويقودهم عبر الصحراء إلى أول أرض خصبة تصلح لإقامتهم. لقد كان بوسعكم أن تعرفوا مقدماً أن هذه الأرض هي فلسطين لأن بقية المنطقة كلها صحراء، وتعرفوا أيضاً أن سيدنا موسى عليه السلام سيعطيها لأبناء الرب دون إذن منكم، وكان بوسعكم أن تتجنبوا الإبادة على يد الرب نفسه الذي تقدس اسمه في الأعالي".
الصادق النيهوم، "حكاية لطفل أعرفه من غزّة"(21)
-II-
الطراد فاروق يغرق في بحر غزة
"كان يرسو على مقربة من شاطئ غزة قبيل اعلان الهدنة الثانية طرادان(
22) مصريان يحمل احداهما اسم فاروق والثاني فريدة. فاقتربت منهما في 16 تموز (يوليو) سنة 1948، وبعد اعلان نبأ الهدنة بساعة واحدة أربع سفن يهودية حربية. وعندما دخلت المياة الاقليمية أحس قائد الطراد فاروق بالخطر، فاتصل بالقاهرة، وطلب أن يعطى الأمر بضربها ولكن القيادة العليا بالقاهرة رفضت اعطاء مثل هذا الأمر. ثم كرر طلبه مرة ثانية، فثالثة. مؤكداً للمسؤولين في القاهرة أن باستطاعته أن يدرأ عنه الشر بمدافعه. فقيل له:
"لا تضرب، إلا بعد أن يضرب اليهود". وكان أولئك المسؤولون يخشون خرق الهدنة في ساعاتها الأولى."
وفيما كان المصريون في تردد وحيرة من أمرهم: أيضربون، أم لا يضربون، انطلقت ناسفتان يهوديتان احداهما باتجاه الطراد المصري فاروق والأخرى باتجاه فريدة. وأصابت الأولى فاروق في مقدمته، فشطرته شطرين وما هي إلا لحظة حتى غاب عن الأنظار، فاستقر في قعر اليم. وأما الطراد الثاني فلم يصب بأذى.
حدثني مفتش الميناء محمود أحمد دباش الغزي، أنه غرق مع الطراد أحد عشر نفر من بحارته، وأن خمسة وسبعين منهم قد نجوا، وأن الفضل في انقاذهم يعود للبحارة من أبناء غزة واللاجئين الذين هبوا للنجدة من كل صوب." عارف العارف، النكبة الفلسطينية والفردوس المفقود(23)
-III-
صيادون في بحر ضيق
"أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَّكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ"
[سورة المائدة، الآية 96]
"مخيم الشاطئ" أو الشاطئ الذي بات مخيماً، بعدما استقبل ألوفاً تشردوا من مدنهم الساحلية ووصلوا غزة عبر البحر. هؤلاء الذين افترشوا الشاطئ بيتاً وعمّروه، بات تعدادهم اليوم قرابة الـ90 ألف لاجئ، يقطنون في مساحة لا تتجاوز 0.52 كيلومتراَ مربعاً(24). عمل عدد كبير منهم بصيد السمك واعتاشوا من البحر، لكنه وهم الذين ائتمنوه وجاوروه رغم غدره بهم مرة، غدرهم ثانية. إذ بات طيّعاً بيد الاستعمار يمطّ الفسحة المتاحة للصيد ويقلصها على هواه، بغية افقار غزة وهي الغنية بالبحر وبغيره؛ وكان ذلك هدفاً تكتيكاً اعتمدته اسرائيل ضد غزة في مجمل ما قامت به على مدى أعوام الحصار السبع العجاف.
[مخيم الشاطئ في غزة [المصدر: موقع Palestine Remembered]]
في كل مرة كانت اسرائيل تلسع غزة بكعب أخيلها، البحر.. فمن الـ20 ميل التي تم التوافق عليها ضمن اتفاقية أوسلو، قلصت المسافة أولاً في العام 2002 إلى 12 ميلاً، ثم 6 أميال في العام 2006 بعد خطف الجندي الاسرائيلي جلعاد شاليط، ثم أعقبتها بقرض 3 أميال أخرى من البحر بعد حربها بين كانون الأول 2008 وكانون الثاني 2009 على غزّة. أضافت تفاهمات وقف اطلاق النار بعد حرب العام 2012 ثلاث أميال إلى الثلاث القائمة، ولكن إذ بإسرائيل تعاود في آذار 2013، تقليصها لثلاثة أميال في توقيت هو الأسوأ إذ ينتظر الصيادين هذا الشهر لكونه شهر الذروة لتصيد سمك السردين؛ لتعود بعد شهرين إلى مطّها لستة أميال. قبيل يومين من الحرب الأخيرة على غزّة، قلّصت اسرائيل مساحة الصيد إلى ثلاثة أميال، ثم سدته تماماً طيلة 50 يوماً من الحرب على غزة.
[حلقة من برنامج غزة تنتصر، بعنوان "الصيد تحت النيران في غزة"، من اعداد قناة الجزيرة وتقديم مراسليها في قطاع غزّة – تامر المسحال ووائل الدحدوح باشتراك عدد من الصياديين الغزاويين (13/8/14)]
اليمّ الذي صار بركة من ثلاثة أميال، ينتقص للثروة السمكية والأسماك الكبيرة الحجم والأكثر قيمة. فيعود منها الصيادون برزق شحيح للغاية لا يسد رمق العائلات وبالكاد يغطي مصاريف الرحلة من أجور عمال ووقود للمركب، أو لسدّ ثمنه في حال اقترض صاحبه المبلغ من البنك لشرائه. الصيادون خسروا البحر، وهو خسرهم بدوره. إذ يقدّر انخفاض عدد الصيادين في غزة في الفترة ما بين 2000 وحتى 2013 من 10 آلاف صياد إلى 3500 صياد فقط.(25)
لا تنته آلام الصيادين في لعبة المد والجزر هذه التي يلعبها الاستعمار بهم، إذ كثيراً ما يتقصدهم حتى وهم ضمن الحدود التي أقامها لهم.. فاستشهد الكثيرون منهم أو أصيبوا أو اعتقلوا أو صودرت مراكبهم إلى غير رجعة. لقد خشي الناس البحر في العصور القديمة إعتقاداً منهم أنه يجلب الشر والشياطين والمخلوقات المخيفة(26). من هنا اختلطت علاقة الانسان والبحر بالواقعي والخيالي، ونُسجتْ الأساطير حول البحر الذي يغرر بالناس مكيداً لهم المآكد ليبتلعهم، ولكن واقع غزة اليوم يعيد تعريف الأساطير. بدل أن يصطاد الناس في بحر غزة يصطادهم الاستعمار ويوقعهم فريسة في بحر غريق، كأنه يردد "لا أساطير في غزة.."
أغنية زفّها البحر(27)
[صيادون في غزة عام 1937 [المصدر: موقع Palestine Remembered]
ان طحتوا المراكب خظخظوا الميه
تروّحوا سالمين يا نور عينيه
**
ان طحتوا المراكب خظخظوا المالح
الله يقف معكم والنبي الصالح
**
حسّبت المراكب حاملة تفاح
وتريها المراكب حاملة الملاح
**
حسّبت المراكب حاملة ليمون
وتريها المراكب حاملة الحنون
**
غابت عليك الشمس يا طايح البابور
عينك تلجلج ولا تدري عَ وين تدور
"العودة المحزنة إلى البحر"
جالت هذه المنمنات على طول خط الساحل الواصل ما بين حيفا وغزّة. في حيفا عشتُ وبيافا مررتُ، فيما عصت عليّ غزة فما بلغتها وما كحلت بتربها من شدة الشوق أجفاني كما قال الإمام الشافعي فيها. أزمان المنمنمات لا تتقاطع بالضرورة، فيها كنت الراوية حيناً والقارئة حيناً والباحثة أو العابرة أحياناً. المراجع تعددت ما بين المكتوب والمسموع والمرئي التاريخي والمعاصر؛ كالبحر ذاته.. الحديث المستحدث الغابر الهادر الصامت.
مياه كثيرة قفزت عنها في تجوالي فهناك طبرية التي علقت بالذهن كفردوس اجتاحه الأشرار، كما وصفها أنيس صايغ. وهناك موائل مياه مدينة عكا، التي كانت أحد المنافذ لاحتلال المدينة حينما لوثها الصهاينة بجرثومة التيفوئيد(28). وهناك قرى حيفا التي صارت زبد ذاكرة، نذكر منها اجزم وعين لام والطنطورة. وهناك جسر الزرقاء، القرية الفلسطينية الوحيدة التي أبقيت على شاطئ البحر، ولكنها محرومة منه والاحتلال يسد طريقها إليه. وهناك أسدود وهناك البحر الميت الذي أخبرني لاجئ سبعيني من القدس، عن الطقس الذي أقاموه لغاية نكسة 1967، حينما كانت تتحلق العائلات على ضفاف البحر عندما يكتمل القمر بدراً، فيتأمل نفسه في وجه البحر حتى لتحسبه ناهضاً من موته. وهناك بحيرة الحولة التي قتلها الاستعمار... وهناك بعدُ الكثير من الماء ليحصى.
عشت ثماني سنوات في حيفا حيث درست في الجامعة وعملت لاحقاً. أغرق في شبر ميّ ولم أحب السمك إلا منذ عدة سنوات فقط. بيد أن السكن في مدينة ساحلية، يعني أن تراوح في مكانك فيما البحر تتلاطم أمواجه بك يومياً. البحر جميل بل ساحر ورائع إذا ما أطللت عليه من كرمل حيفا. بلى، هو كذلك.. لكن بعد هذا البحث، بتّ أدرك أمراً واحداً؛ لقد انكسر شيء بيني وبينه إلى الأبد.
[1] مصطفى مراد الدباغ، بلادنا فلسطين، دار الهدى – كفر قرع (1991). الجزء السابع، ص 524.
[2] مي إبراهيم صيقلي، حيفا العربية 1918-1939 (التطور الاجتماعي والاقتصادي)، مؤسسة الدراسات الفلسطينة – سلسلة المدن الفلسطينية (1997). ص65.
[3] علي حسن البواب، موسوعة حيفا الكرملية، المكتبة القومية – عمان (2009)، الجزء الأول.
[4] مثل فلسطيني يضرب للإشارة إلى انعدام الأمان والاستقرار.
[5] Hasan, Manar and Ayalon, Ami (2011), “Arabs and Jews, Leisure and Gender, in Mandatory Haifa’s Public Spaces” in Yazbak, Mahmud and Weiss, Yifaat (eds.), Haifa Before & after 1948, Narratives of a Mixed City, Amsterdam: Republic of Letters, pp. 69-98.
[6] مثل يضربه أهل الجبل في فلسطين في أهل المدن الساحلية للتقليل من شأنهم والتديدل على رابطهم الواهي مع أرضهم.
[7] إيلان بابيه، التطهير العرقي في فلسطين، مؤسسة الدراسات الفلسطينية (2007)، نقله إلى العربية أحمد خليفة. ص 105- 106.
[8] إيلان بابيه، التطهير العرقي في فلسطين، مؤسسة الدراسات الفلسطينية (2007)، نقله إلى العربية أحمد خليفة. ص 107.
[9] مثل فلسطيني.
[10] مي إبراهيم صيقلي، حيفا العربية 1918-1939 (التطور الاجتماعي والاقتصادي)، مؤسسة الدراسات الفلسطينة – سلسلة المدن الفلسطينية (1997). ص67.
[11] إيلان بابيه، التطهير العرقي في فلسطين، مؤسسة الدراسات الفلسطينية (2007)، نقله إلى العربية أحمد خليفة. ص 105.
[12] حسن ابراهيم سعيد، يافا: من الغزو النابليوني إلى حملة إبراهيم باشا (1799 – 1831)، سلسلة المدن الفلسطينية عن مؤسسة الدراسات الفلسطينية (2008)، ص 154.
[13] مصطفى مراد الدباغ، بلادنا فلسطين، دار الهدى – كفر قرع (1991). الجزء الرابع، ص 224.
[14] حسن ابراهيم سعيد، يافا: من الغزو النابليوني إلى حملة إبراهيم باشا (1799 – 1831)، سلسلة المدن الفلسطينية عن مؤسسة الدراسات الفلسطينية (2008)، ص 153.
[15] مصطفى مراد الدباغ، بلادنا فلسطين، دار الهدى – كفر قرع (1991). الجزء الرابع، .ص. 194
[16] مصطفى مراد الدباغ، بلادنا فلسطين، دار الهدى – كفر قرع (1991). الجزء الرابع، ص 195.
[17] طقس اعتاد أهالي المدن الساحلية، مسلمون ومسيحيون على حد سواء، الاحتفاء به على شواطئ مدنهم في الأربعاء الأخيرة قبل عيد الفصح وقبل "خميس الأموات". وذلك اعتقاداً منهم أن مياه البحر طرد الأرواح الشريرة، وتخصب العواقر وتجلب الحظ للنساء العوانس.
[18] ما غنته العزباوات في أربعاء أيوب التماساً منه ليحظين بزوج. سليم تماري، الجبل ضد البحر: دراسات في إشكاليات الحداثة الفلسطينية. رام الله: مواطن، المؤسسة الفلسطينية لدراسة الديموقراطية (2005).
[19] سليم تماري، الجبل ضد البحر: دراسات في إشكاليات الحداثة الفلسطينية. رام الله: مواطن، المؤسسة الفلسطينية لدراسة الديموقراطية (2005). ص 27- 29. يجدر التنويه أن شاطئ البحر مفتوحاً لليوم لأهل غزة.
[20] مقتبس لدى: مصطفى مراد الدباغ، بلادنا فلسطين، دار الهدى – كفر قرع (1991). الجزء الأول، ص 91.
[21] الصادق النيهوم، طرق مغطاة بالثلج، دار تالة للطباعة والنشر، الجماهيرية الليبية العربية (2001)، ص265.
[22] الطَّراد: سفينة صغيرة سريعة السير.
[23] عارف العارف، النكبة الفلسطينية والفردوس المفقود، المجلد الثالث، ص 634.
[24] يوجد في قطاع غزّة ثمانية مخيمات للاجئين الفلسطينيين، يعدّ مخيم الشاطئ ثالثها من حيث كبر المساحة.
[25] تقرير مكتب تنسيق الشؤون الانسانية التابع للأمم المتحدة OCHA:http://www.ochaopt.org/documents/ocha_opt_gaza_fishermen_case_study_2013_07_11_arabic.pdf.
[26] سليم تماري، الجبل ضد البحر: دراسات في إشكاليات الحداثة الفلسطينية. رام الله: مواطن، المؤسسة الفلسطينية لدراسة الديموقراطية (2005).
[27] علي الخليلي، أغاني العمل والعمال في فلسطين، منشورات صلاح الدين، القدس. ص107.
[28] إيلان بابيه، التطهير العرقي في فلسطين، مؤسسة الدراسات الفلسطينية (2007)، نقله إلى العربية أحمد خليفة. ص 111.